الأربعاء، 31 أكتوبر 2018

الشعر المجعد وذكريات الطفولة واعتناق الهوية

منذ صغري، تعلمتُ أن شعري ليس جميلاً وجذاباً لأنه مجعد. كانت أمي تمشطه وتضفره إما بتسريحة جودي آبوت ذات الضفيرتين على جانبي الرأس، أو بضفيرة واحدة في الوسط. كانوا إخواني يمزحون معي بطريقة الإخوان اللئيمة ويسمونني "أشعة الشمس الضارة"، لأن الشعيرات القصيرة المجعدة في مقدمة رأسي كانت ترفض تسريحات أمي ومحاولاتها لفردهم. لم تساعدني حقيقة أن اسمي "الشعثاء"، بمعنى الشعر الأغبر وغير المذّهب، لأني تخيلت أن اسمي يلائمني ويلائم طبيعة شعري. كبرتُ قليلاً وأصبحتُ أملس شعري باستخدام المواد الكيميائية التي تفرد الشعر لشهور عدة - من ثلاث إلى ستة أشهر - لحين ما يطول الشعر ويرجع لطبيعته، ثم أملسه مجدداً. كانت عملية مؤلمة وحارقة ولكنني كنت أسعد بالنتيجة دائماً، لأنها أشعرتني بالجمال المتمثل في الشعر الأسود الأملس الطويل، والقابل للتسريح من غير جهد. ثم لبستُ الحجاب وتوقفت لفترة عن الإهتمام بشعري، باستثناء في المناسبات الإجتماعية الخاصة بالنساء كالأعراس والحفلات البناتية حيث كنت ألجأ إلى الصالونات النسائية لفرد شعري. قررتُ وقتها أني تعبت من العلاج الكيميائي المسمى بالتمليس، وأريد لشعري أن يعود طبيعياً. لم يكن قراراً سياسياً أو تمرداً بقدر ما كان قراراً نابعاً من عدم معرفتي بصالونات تملس الشعر في الكويت - حيث درستُ البكالوريا. كنت ألبسُ الحجاب حتى في السكن البناتي لأني لم أكن أعرف كيف أسرح شعري وكنت أخجل من إظهاره أمام البنات. مررت وقتها بالمرحلة الإنتقالية الكريهة، حيث الجذور مجعدة والأطراف ملساء، إلى أن اكتمل نمو شعري الطبيعي وقصصت الأطراف الملساء. 

لم أفكر أبداً طوال هذه السنين عن التأثيرات الإجتماعية والنفسية والسياسية للشعر المجعد. مع قدومي للولايات المتحدة قبل أربع سنوات ومع قراري بخلع الحجاب، بدأت أفهم قليلاً الآثار المترتبة على هذه الضغوط. فمن جهة، هناك مقاييس الجمال المتأثرة بالمركزية الأوروبية والتي تملي علينا مفاهيم معينة كالطول والضعف والبشرة البيضاء والشعر الأملس والتي نشاهدها طوال حياتنا من خلال الأفلام والأغاني الغربية وتؤثر على نظرتنا لأنفسنا بحيث نطمح إلى "تحسين أشكالنا" من خلال كريمات التبييض - "فير آند لافلي" :) - ومنتجات تمليس الشعر. قرأتُ في أحد الأبحاث* ارتباط شكل الشعر للنساء العبيد في أمريكا بوظيفتهن: المرأة السوداء بالشعر المجعد كانت تعمل في الحقول، في حين أن المرأة السمراء ذات الشعر الأشبه بالشعر الأبيض، الأقل تجعيداً، كانت تعمل كخادمة في المنازل. وبالطبع، لا نزال نرى آثار هذه العنصرية إلى اليوم حيث يُعتبر الشعر المجعد، المضفر، الآفرو غير احترافي في بيئة العمل، ويجب "ترويضه" وجعله أقرب للشعر الأبيض بقدر الإمكان. ومن جهة أخرى، ربما أكثر خطورة بالنسبة لي كإمرأة سمراء بأصول مختلطة عربية وافريقية، هناك النظرة الدونية للعرب المختلطين في عُمان ودول الخليج عموماً. مفهوم "عُماني أصلي"، أو "قحي" بمعنى العُماني الذي ظل في عُمان ولم يهاجر ولم يختلط بأعراق أخرى كان مؤثراً علي كطفلة صغيرة ومراهقة بدأت بالإنفتاح على العالم. كمية "النكات" التي سمعتها والمرتبطة ببشرتي السمراء وشعري المجعد ولهجتي "الزنجبارية"* لا تُحصى. بسبب هذا الأمر، كنتُ أرغب دوماً بالتشبه ب"العُمانيين الأصليين" بدلاً من اعتناق هويتي المختلطة، وربما أيضاً لنفس السبب لم أسعى إلى تعلم اللغة السواحيلية، وأنا نادمة حقاً على ذلك اليوم.

أكتب كل هذا ليس دعوة للنساء باعتناق شعرهن المجعد، وليس رفضاً للنساء اللاتي يخترن تمليس شعرهن، فكلا الخيارين في النهاية أمر شخصي. بل أكتب كل هذا لأنني ذهبت البارحة برفقة صديقتي كيتكي إلى حفلة روك، حيث كان زوجها مطبل الفرقة، وكنتُ سعيدة أيما سعادة بشعري المجعد، المحتضن لوجهي، والكبير، والآفرو، والإفريقي. كنتُ سعيدة بأن شعري مختلف عن 95% من الحضور، وأني أمتلك ميزة تربطني بهويتي وأصولي. كنتُ سعيدة لأني آمنت أخيراً بجمال وجاذبية شعري.


* مقال سينثيا روبينسون في مجلة هاورد لعلوم الإتصال، المعنون "الشعر كمؤشر للعرق: لماذا "الشعر الجيد" قد يكون سيئاً للنساء السود"، عام 2011، مجلد 22، العدد الرابع.

* بالمناسبة، كلمة "زنجباري" للدلالة على العمانيين الذين هاجروا إلى وسط شرق إفريقيا وتزاوجوا مع السكُان الأفارقة المحليين، ثم عادوا إلى عُمان بعد تولي السلطان قابوس الحكم، كلمة غير دقيقة أبداً. فهي توحي أن زنجبار هي الدولة الوحيدة التي هاجر إليها العمانيون، في حين أنهم هاجروا إلى دول مختلفة كبروندي ورواندا وكينيا، ولكن هذا موضوع آخر وربما له حديث مستقبلاَ. موضوع اللهجة أيضاً موضوع شيق ومثير للتحقيق.

نقد السعادة


من أجمل النقاشات التي شاركت فيها مؤخراً كان حول هذا الكتاب البديع الذي قرأناه لمقرر "نصوص ونظريات نسوية".

يأخذ كتاب "وعد السعادة" لسارة أحمد مفهوم السعادة لا ليعرَفه، بل ليفهم كيف يعمل ويؤثر على ايديولوجيات رأسمالية وذكورية. تسأل أحمد في مقدمة الكتاب "لماذا اخترت مفهوم السعادة ولماذا الآن؟" وتجاوب بسرد مجموعة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية نحو السعادة، من قبيل خطابات المساعدة الذاتية التي تعدد طرق تحقيق السعادة في مجال علم النفس الإيجابي والقراءات - الاستشراقية في كثير من الأحيان -  للفلسفات الشرقية مثل البوذية. يُشار إلى السعادة كصناعة وكمنتج، بحيث أصبحت الحكومات حول العالم تباهي بـ"سعادة السكان" حسب المؤشرات الاقتصادية المختلفة واستبيانات قياس السعادة – هل يمكن للمشاعر أن تُقاس؟

في الفصول اللاحقة للكتاب، تحلل أحمد صورة "دخيل العاطفة" – هؤلاء الذين تحدوا الصورة التقليدية للسعادة بوصفها أداة للتسلط الاجتماعي وانتقدوا فكرة أن السعادة هي الهدف الأعظم للحياة. على سبيل المثال، في الفصل الثاني من الكتاب، تأخذ أحمد صورة "ربة المنزل السعيدة" وتحللها عبر قراءات مختلفة لنصوص أدبية مثل رواية فرجينيا وولف "السيدة دالاوي" ورواية "إميل" لجان جاك روسو. تؤكد أحمد أن صورة "ربة المنزل السعيدة" هي صورة خيالية تمحي أثار العمل المضني الذي تقوم به النساء في المنزل وتستبدله بفكرة السعادة. أن نؤكد بأن النساء سعيدات وأن هذه السعادة قادمة من عملهن في المنزل كربات بيوت وكأمهات يبرر وضع العمل المنزلي تحت عاتق النساء فقط، أو مثلما تقول أحمد "يؤكد جندرة أنواع معينة من العمل"، ليس ذلك فحسب، بل هو يؤكد أيضاً أن هذه رغبة وأمنية جماعية لأنه جالب للسعادة. حين تنبه النسويات على مثل هذه الأمور، يوصفن بأنهن غير سعيدات، وبذلك تصبح عدم سعادة النسويات هي المشكلة وليس حالات الظلم والعنف والتسلط. وبالمثل، هناك الصورة النمطية للمرأة السوداء الغاضبة، نراها كثيراً في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، ويصبح الغضب/عدم السعادة محل التركيز بدلاً من الاهتمام للقضايا التي تدعو للغضب مثل قضايا العنف ضد النساء السود أو العنصرية أو انخفاض الأجور بالمقارنة مع الرجل الأبيض.  

في الفصل الرابع، تحلل أحمد صورة المهاجر الميلانخولي أو الكئيب الذي لا ينسى بلاده وأصوله فيصبح حنينه نحو الوطن قاتلاً للسعادة ومضاداً للاندماج مع البلد المهاجر إليه. أما المهاجر السعيد والمثالي فهو المهاجر الذي ينسى بلاده ويمتص ويتشرب عادات وقوانين البلد الجديد. تذكرتُ مع قراءتي لهذا الفصل حملة كوكاكولا في الإمارات العربية المتحدة قبل عدة أعوام، حملة "مرحبا أيتها السعادة". استهدفت الحملة العمّال الآسيويين في دبي، حيث ركّبت أكشاك هواتف في مختلف المناطق السكنية التي يعيش فيها هؤلاء العمال. الفكرة كالتالي: مع كل قنينة كوكاكولا، يستطيع الوافد أن يستخدم الغطاء كعملة نقدية، بحيث يدخلها في الماكينة ويدخل الرقم الذي يرغب بالإتصال به، ويصبح في رصيده ثلاث دقائق للمكالمة. بالطبع، نرى في الإعلان سعادة العمّال ومدى انتشائهم بالحديث مع عائلاتهم. المهاجر السعيد هو الذي ينسى كل ظروف العمل القاهرة مثل مصادرة الجوازات، وأجور منخفضة، وعقود عمل ظالمة، ويفرح باتصال مدته ثلاث دقائق فقط بسعر قنينة كوكاكولا. ينهي الإعلان بشعار - أقل ما أقول عنه أنه سخيف - "السعادة تكمن في كوكاكولا واتصال للوطن"، وسأقول على ضوء ما قرأت في هذا الكتاب: بل يجب علينا الدفع نحو عقود عمل منصفة وظروف عمل آمنة بدلاً من أن نستخدم السعادة كأداة تطبيع للظلم الواقع عليهم. هذا الدفع نحو مفهوم ملتبس ومبهم كالسعادة على حساب العدالة والإنصاف هو بالضبط ما تنتقده أحمد، ولذلك تدعو في نهاية الكتاب إلى "قتل السعادة" لأن ذلك يؤدي إلى "الانفتاح على الحياة، وإفساح المجال لاحتمالات وفرص عدة".

نقد مصطلح التسامح


أقرأ هذا الكتاب حالياً لدواعي بحثية، وعلى الرغم من أنه يتحدث عن الولايات الأمريكية بشكل خاص، إلا أنه لا يسعني إلا أن أتساءل عن إمكانية تطبيق ما تناقشه الكاتبة المنظّرة السياسية ويندي براون على عُمان والخليج، بالطبع مع التأطير وفهم السياق.

تناقش براون مفهوم التسامح كأداة للإمبراطورية والسيطرة السياسية، مع دراسة حالة قضايا عديدة مثل حملات حقوق المثليين، حملة الحرب على الإرهاب بعد سبتمبر ١١، والحرب على العراق، وغيرهم. التسامح، من وجهة نظرها، لا يعني التأييد، بل يعني الموافقة المشروطة لما هو غير مرغوب ومنحرف. بالرغم من أن التسامح يُقدم كبديل للعنف، إلا أنه يمكن أيضاً أن يكون مسوغاً للعنف، مثل في حالة الحرب على الإرهاب والتفرقة بين الغرب المتحضر والشرق الإسلامي البربري. كما أن التسامح كمفهوم سياسي وخطاب سلطوي لا يفرق بين، مثلاً، اليمين المتطرف وحقوق الأقليات - كلاهما يرغبان ويلوحان به.

سؤال محرّض: حين ندّعي أن عُمان بلد التسامح - لأن مثلاً "السني والإباضي والشيعي يصلوا جنب بعض في المسجد" - ماذا بالضبط نعني بذلك؟ حقوق ومواطنة متساوية؟ أم هو "تفق برزة"؟ :)

هذا كتاب استفزازي بشكل رائع.

الوطنية الشوفينية

المشكلة ليست في "الثقة الفارطة" لنعيمة، أو في عرضها لروتينها الرياضي في الجيم، كما أن المشكلة ليست في نظرة الشباب المدعوين للحديث في حلقة سوار شعيب عن نعيمة. بل المشكلة تكمن في ايديولوجية الوطنية الشوفينية التي ترى أنه يجب على كل سكان البلد - ما يقارب الثلاثة ملايين - ان يتقيدوا بعادات وتقاليد عائمة ومبهمة وأن يتقيدوا بأخلاق فرضت عليهم من قبل ثلة من الذكوريين الأصوليين. فكرة "لا تمثل الشعب العماني" في أساسها فكرة شوفينية ماحية لكل الاختلافات العرقية واللغوية والجندرية والسياسية والثقافية.

المضحك أن الحلقة معنونة بالأخلاق وبها مجموعة من الرجال يحدقون في فيديوهات لنعيمة وهي تُمارس الرياضة ويضحكون على صفة "الفاشينيستا" ويؤكدون أنها لا تمثل الشعب العُماني في حين أنهم يفاخرون بأن المرأة العمانية لها حقوقها وتستطيع أن تمتلك أرضاً وبيتاً في خلال "سنة" ههههههه

مشكلة التنميط والمثالية الزائفة، حتى لو كان تنميطاً إيجابياً من قبيل: "شعب عمان طيب ومتسامح ويصلوا جنب بعض" أنه يؤدي إلى تبسيط لمشاكل البلد الحقيقية واختزال للشعب العماني في شخصية مثالية كرتونية غير واقعية.

حلقة سوار شعيب عن عُمان كاملة:
https://youtu.be/WqrSevSy2xc 

وفي نهاية قولي هذا أدعوكم إلى ترديد أذكار الصباح والمساء المرفقة في الصورة أدناه


الرومانسية البائسة





شد نظري مقالة مكتوبة باللغة الإنجليزية بعنوان "ابقي عزباء إلى أن تجدي رجلاً بهذه المواصفات"، وأبديت استغرابي من المواصفات العجائبية المذكورة في المقال، إلى حد أني كنت أنتظر قراءة جملة ما توحي بأنه مقال ساخر. ولكن لا، كان مقالاً جاداً جداً. إن كن النساء يؤمن حقاً بتلك المعايير، فالسلام على العلاقات العاطفية الصحية والخالية من الإحباطات المتكررة.

أولاً، المعايير المذكورة في المقال معايير هترو-نورماتيڤ (أو حسب ترجمة ويكيبيديا: معيارية المغايرة) بمعنى أنهم معايير يؤدون إلى تطبيع الأدوار الجندرية بين كلا من الرجل والمرأة، فيصبح دفع الفواتير وإصلاح العطل الكهربائية أفعالاً خاصة بالرجل وحده، ويصبح الطبخ والتنظيف والاهتمام المستمر أدواراً خاصة بالمرأة وحدها. هترو-نورماتيڤ يعني أيضاً حصر العلاقات العاطفية بين الرجل والمرأة فقط، في حين أن العلم الحديث والمجتمعات المتغيرة والأعراف المختلفة أصبحوا يرحبون بمختلف الأنواع من العلاقات. من "النصائح" المذكورة في المقال: "ابقي عزباء إلى أن تجدي الرجل الذي يفتح لك كل الأبواب"، و"ابقي عزباء إلى أن تجدي الرجل الذي يدفع لك الفاتورة ولا يجعلك تمسين محفظتك". في كثير من الأحيان ترحب النساء بمثل هذه المعايير، ولا تقبل لهم بديلاً، وذلك بداعي الرومانسية، ولكني أرى أن مثل هذه المعايير تؤكد على الأدوار التقليدية بين الرجل والمرأة، وهذا بدوره يصبح أكبر عائق لأحلام النساء والرجال الذين يريدون التغيير وكسر القوالب الجاهزة لدورهم في الحياة. ماذا لو فتحت المرأة الباب للرجل؟ وماذا لو كان منصبها الوظيفي يدر مالاً أكثر عنه وبالتالي هي تريد أن تدفع الفاتورة؟ ماذا لو فضّل الرجل البقاء في المنزل وطبخ الطعام؟

ثانياً، هي معايير حالمة جداً ولا تمت للعالم الواقعي بصلة. أن تتوقع المرأة من الرجل أن يترك كل ما في يده لأجل مساعدتها في شيء ما، وأن يرسل لها الزهور دوماً بمناسبة وغير مناسبة، وأن يرد على رسائلها في نفس اللحظة - كل ذلك يعني أن هذه المرأة تتوقع من شريكها هذا أن يكون شريكها فحسب، أي أنه لا يمتلك دوراً في الحياة غير ذلك. بالإضافة إلى كون هذه الأفكار غير واقعية البتة، فهي أيضاً أفكار خطيرة إذ أنها تجعل سقف التوقعات عالية جداً مما يؤدي إلى الإحباطات المتكررة في أي علاقة. لا بأس بقليل من الرومانسية بين كل فترة وأخرى - ولا يجب أن يكون دوماً من طرف الرجل - ولكن لا أحد لديه الوقت أو الطاقة أن يستثمر في شريكه إلى هذا الحد المتكلف.

وهذا بالطبع من غير الخوض في الآثار الأخرى التي تنتج من مثل هذه الأفكار، مثل حب التملك والغيرة الشديدة والإحساس بالنقصان وعدم الأمان طوال الوقت. بحث بسيط وسريع عبر محرك جوجل للصور باستخدام كلمات مثل "رومانسية، حب، هيام" أعطاني هذه الصور الكارثية والمضحكة في آن!

إن كنُت أؤمن بهذه النسخة الحالمة من الرجال، أو كنتُ أنتظر رجلاً كهذا، لعشتُ بقية حياتي في بؤس، وأنا لا أنوي فعل ذلك أبداً.

- منشور فيسبوكي بتاريخ يوليو، 2017

قضية ريهام سعيد وسمية (فتاة المول)

المشكلة الأساسية في قضية ريهام سعيد وسمية (فتاة المول) ليست مشكلة انعدام عاطفة ريهام وقلة أخلاقها وقدرتها التي لا تصدق على سرقة صور فتاة وفضحها أمام العالم، فقد علمتنا هذه الحياة أن شرور الناس لا تنتهي وستستمر مع استمرار الحياة.. ولكن المشكلة الأساسية هي ما تُسمى بـ"ثقافة الإغتصاب"..
ثقافة الإغتصاب تعني، من بين عدة أشياء، جعل التحرش والإغتصاب فعلاً طبيعياً وسوياً، وهذا لا يعني بكل تأكيد أن هذه الثقافة تشجع الإغتصاب بشكل ظاهري وصارخ وتدعو إليه، ولا يعني أننا نشترك بشكل جماعي في العنف الجنسي، بل يعني أن الإغتصاب والتحرش الجنسي أصبح معذوراً أو متحملاً أو مهملاً أو حتى قليل الأهمية بحيث يتم سرد النكات حوله، وهذا كله بسبب انطباعاتنا المغروسة فينا منذ الصغر عن الجنس والجنسانية. من أهم مظاهر ثقافة الإغتصاب هو لوم الضحية بدلاً من الجاني، بسرد أعذار واهية مثل: "ما حد قالها تروح المهرجان"، "كانت لابسة أحمر وضيق"، "ليش تحضري مباريات كرة؟"، "شوفوها تمشي بميوعة"، "المكياج مرة ثقيل"، "أصلاً هي تشرب وتروح بارات"، "ليش طالعة متأخر في الليل؟" وغيرها من الأقوال التي تعفي الجاني والمغتصب والمتحرش من إرتكابه للجرم وتلوم الضحية على أفعالها.

هنا مجموعة تعليقات جمعتها من الفيديوهات التي تتحدث عن قضية ريهام سعيد وسمية في بحث لم يأخذ أكثر من خمس دقائق، لأبين مدى تفشي هذه الثقافة:

- البنت دي [يقصد الفتاة التي تم التحرش بها] برضو شكلها أصلاً زبالة وعاملة نفسها بنت ناس
- دى بت تستاهل الى يحصل فيها دين ام شكلها بتقول انها شمال
- اما يكون بلطجي كل اللي حصل عادي وطبيعي
-  والله ريهام سعيد محترمه جداً والبنت عاااااهره بامتياز تبغى اي احد يتحرش فيها وخلاص هههههههههه يبدو كانت فايره مررره ولحقت المسكين الرجال. الله يفضحك اكثر واكثر يا منحطه اتفووووووو
- انتوا ليه متعاطفين مع سميه دي باين عليها قويه ومفتريه شوفوا اسلوبها وهي تتكلم واصلا مالو داعي تطلع في برنامج عشان قصة مول اي بنت تتعرض لها وبنت الناس هي اللي تطنش وخلاص تمشي يمين مو تروح تفضح نفسها وتعمل قصه

قد يقول أحدهم أن هذه التعليقات تعبر عن رأي أصحابها فقط وأن معظم الناس لا يفكرون هكذا، ولكن الأمر لا يقتصر فقط على مجموعة تعليقات في اليوتيوب بل يتعدى ذلك إلى ممارسات يومية. لكم أن تتخيلوا كم البوسترات والنكات والكاريكاتيرات التي تتحدث عن عفة الفتاة وعن ضرورة لبسها للعباءة وعن الرجال الذئاب.. الخ الخ!

أسرد هذا الكاريكاتير المنشور في صحفنا على وجه المثال ولست أقصد شخصنة الموضوع أو النيل من الراسم.
لو تصورت الفتاة مع المشاهير، لو لبست القصير، لو شربت، لو فعلت ما لا يقبل به دينك وعرفك، فذلك كله لا يعني أنها ستقبل بالتحرش.


أخلاق رأسمالية


مقتطفات من كتاب Egypt in the Future Tense: Hope, Frustration, and Ambivalence before and after 2011، للكاتب الانثروبولوجي ساميولي شيلكه، تحديداً من الفصل المعنون "أخلاق رأسمالية؟". 

منذ السبعينات تحول الاقتصاد المصري من اقتصاد مبني على دولة قومية بميول إشتراكية، إلى اقتصاد رأسمالي بمنحى عالمي وإيحاءات دينية. 

إحدى ميزات الرأسمالية التي جعلتها ناجحة وديناميكية حول العالم (بالإضافة إلى بالطبع قدرتها الاستثنائية على توليد وإعادة استثمار الفائض) هو قدرتها المزدوجة على تكوين قيمة محايدة من التكنولوجيا ومن ثم حشوها بمحتوى أخلاقي. وقد روجت الرأسمالية لنظام أخلاقي يمنح الامتياز لقيم يجب اعتبارها سمات أساسية للإنسان الفاضل، مثل الابتكار، والمبادرة، والمسؤولية الفردية، والمتعة، والمنافسة، والنجاح، والحرية؛ ما يجعل من الرأسمالية والصحوة الدينية حلفاء طبيعيين.

يمكننا تتبع صدى التشابه بين الأرباح النقدية للرأسمالية ومنهج تجميع الحسنات للحياة الأخروية في الصحوة الإسلامية.

لنأخذ على وجه المثال الأدعية القصيرة التي انتشرت على الانترنت في مطلع الألفية الثانية والتي تحمل في طياتها وعودا بـ"جبال من الحسنات" لمن يقرأها ويرسلها للناس ويدعوهم لقراءتها. هذه العبادة النفعية التي تسهل نيل الحسنات شائعة جداً؛ تجمع بين الاهتمام بالحسنات والعقاب للحياة الآخروية وبين الاهتمام بالأرباح والنجاح والاستهلاك في الحياة الدنيوية.

تتحدث ليلى، وهي أول من نبهني على هذا التشابه بين الدين والرأسمالية، عن زميلها في العمل الذي يذهب للصلاة في أبعد مسجد - بدلاً عن الصلاة في مقر العمل - لأنه يؤمن أن كل خطوة بحسنة ولذا يريد الزيادة من عدد خطواته لتكثر حسناته، وتقول أنه يعامل الدين مثل معاملته للعمل، فنحن نفكر "كم أنجزت خلال ساعة عمل؟" وهو يفكر: "كم من الحسنات جمعت؟"، إذ تتقلص حياته كلها أمام تجميع الأرباح للحياة الأخروية. إنه يفكر في الدين بطريقة رأسمالية تماماً.

تقدم الرأسمالية أقوى يوتوبيا اجتماعية في عصرنا. فهي تدعي القدرة على توفير الاكتفاء متمثلاً في السلع المادية والخدمات، والمشكلة في هذا الإدعاء لا يكمن فقط في اللامساواة وإنما أيضاً في مراوغته الزمنية، إذ أن هذا الاكتفاء مرتبط بالديون والاستثمار والرغبة المستمرة في التوسع.

هذا القلق والرغبة في النجاح متصل أيضاً بالقلق الديني والرغبة في السعادة الأخروية. ويرى شيلكه أن الخوف من الله ليس فقط خوفاً أخلاقياً ورغبة في التمييز بين الخطأ والصواب بل هو أيضاً خوف عاطفي من النقصان المستمر، وهذه سمة مركزية في الرأسمالية والصحوة الدينية والسلطة النيوليبرالية.

----

بترجمتي، بتصرف.
- منشور فيسبوكي بتاريخ أكتوبر، 2015